| فاتنة علي |
> “وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا”
(النساء: 104)
—
من الآية إلى الواقع: دستور صمودٍ لا يشيخ
اخترتُ أن أبدأ بهذه الآية الكريمة لا بوصفها نصًّا دينيًّا فحسب، بل كمنهج حياة يُعبّر عن فلسفة النضال الإنساني في أبهى معانيه. فهي ليست خطابًا للعقيدة فقط، بل توجيهٌ لمن يخوض معركة الحق ضد الباطل، لتثبيت أن الألم ليس حكرًا على طرف دون آخر، وأنّ الأمل بوعد الله هو الفارق الجوهري بين من يقاوم ومن يعتدي.
في كل حربٍ طرفان، وفي كل مواجهةٍ هناك خسائر من الجانبين، غير أن الإعلام العالمي اختار أن يُظهر ألمًا واحدًا ويُخفي الآخر، وأن يبني سرديته على دمٍ واحدٍ دون أن يرى الدم المقابل.
—
حين يصبح الإعلام شريكًا في المعركة
منذ سنواتٍ طويلة، والعالم يُشاهد صور الدمار في غزة وجنوب لبنان، ويغفل عمّا يصيب الطرف الآخر من خسائر وانهيارات.
كأنّ المدن الإسرائيلية لم تُقصف، وكأنّ الخوف لم يتسلل إلى بيوت المحتلين، وكأنّ الانشقاقات السياسية، والانهيارات الاقتصادية، والتوترات النفسية ليست سوى أوهام.
إنّ تركيز الإعلام الغربي على معاناة الفلسطينيين لا يُراد منه التعاطف الإنساني بقدر ما يُراد به الإحباط النفسي، فالمطلوب أن يرى المتلقي العربي المشهد ويقول في نفسه: “لن ننتصر”.
بهذا الشكل، تتحول الكاميرا إلى سلاحٍ أشد فتكًا من القذيفة، وتصبح السردية جزءًا من المعركة التي تستهدف الوعي قبل الجسد.
—
الكيان لا يعيش النعيم… بل يتصدّع من الداخل
ما لا يقوله الإعلام أن الكيان الإسرائيلي يعيش للمرة الأولى في تاريخه حالة تفككٍ حقيقية:
أكثر من مليون مهجّرٍ داخلي، موانئ متوقفة، مطارات مغلقة، أزمة حكومية غير مسبوقة، وتآكل في صورة “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” بعد انكشاف استخدامه أسلحة محرّمة ضد المدنيين.
تضاف إلى ذلك الانشقاقات الاجتماعية الحادة، وارتفاع نسب الانتحار والإدمان، وتزايد موجات الهجرة العكسية.
هذه الوقائع لا تقلّ أهمية عن مشاهد الدمار في غزة، لكنها تُغيب عمدًا عن الشاشات.
لماذا؟ لأنّ الاعتراف بها يعني نسف السردية التي بُنيت بعناية منذ عقود: “إسرائيل لا تُقهر”.
—
هزائم تُحجب خلف الضجيج
منذ الانسحاب الإسرائيلي المذل من جنوب لبنان عام 2000، إلى حرب تموز 2006، إلى صفقات تبادل الأسرى التي فرضتها المقاومة بشروطها، يتكرر المشهد ذاته:
الكيان يهاجم، يعجز، ثم يفاوض.
في كل مرة يخرج منهكًا رغم ما يمتلكه من ترسانة وسلاح وإسناد دولي.
لكن الإعلام يختار أن يُسدل الستار على لحظة الإخفاق، ويُبقي الضوء مسلّطًا على ركام غزة وحده.
إنّ هذه المعادلة ليست بريئة. إنها سياسة مُمنهجة لصناعة وعيٍ مشلولٍ ومُستسلم، يرى في العدو قوةً مطلقة وفي المقاومة حماقة.
وهي سياسة نجحت للأسف في تحويل كثير من المنابر العربية إلى أبواقٍ تردّد ما يُملى عليها، بدلاً من أن تكون أدوات مواجهة وتنوير.
—
المال والإعلام… جناحا السيطرة الصهيونية
منذ نشأته، أدرك الكيان أنّ السيطرة لا تكون بالبندقية وحدها، بل بثنائية المال والإعلام.
الأول يشتري السلاح والنفوذ والضمائر،
والثاني يشتري العقول ويعيد تشكيلها.
الإعلام الصهيوني ليس مجرد وسيلة نقل خبر، بل مصنعٌ للأفكار والانطباعات.
يكرّر الأكاذيب حتى تتحول في اللاوعي الجمعي إلى “حقائق”.
يُعيد بث الرسائل نفسها:
“أنتم ضعفاء، لن تنتصروا، إسرائيل لا تُهزم”،
حتى تصل الشعوب إلى مرحلة الاستسلام الذهني قبل أن تطلق رصاصةً واحدة.
وهذا ما يُفسّر عجز الإعلام العربي — رغم امتلاكه إمكانيات هائلة ومنصات ضخمة — عن خلق سرديةٍ موازية تُعيد للناس ثقتهم بذواتهم.
فالصمت، والتواطؤ، والخذلان كانت أدوات هزيمتنا الأولى، لا القصف ولا الحصار.
—
التاريخ شاهد… والميدان لا يكذب
من قال إننا نحلم أحلامًا مستحيلة؟
نحن من شاهدنا تحرير الجنوب عام 2000.
نحن من عايشنا صمود تموز 2006.
نحن من رأينا غزة تُقصف وتُحاصر ثم تنهض من تحت الركام أكثر قوةً وإيمانًا.
نحن من شاهدنا حماس تقاتل رغم الجوع، وحزب الله يصمد رغم التهديدات، وكل مقاومٍ يسير نحو الشهادة دون أن يتردد.
تحيةً لكلّ من حمل راية المقاومة:
للرجل الذي هندس الطوفان، للسنوار وضيف، لكل مقاومٍ في غزة الصامدة،
ولقادة الجنوب — الحسن والهاشمي — صانعي النصر وراسمَي ملامحه.
تحيةً للقيس الذي أرعب الكيان بكلمة،
ولعماد الذي شيّد الأعمدة الأولى لمقاومةٍ أصبحت مدرسةً في الكرامة.
—
وعد الله حق… وهم الزائلون
> “إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ…”
نعم، نحن نألم، لكننا نرجو من الله ما لا يرجونه هم.
هم يتألمون أيضًا، لكنّهم ييأسون.
هم يملكون القوة المادية، ونحن نملك الإيمان بوعدٍ لا يتبدّل.
هم العالم العابر، ونحن الأثر الذي لا يُمحى.
نحن الجذر الثابت في الأرض كزيتونة فلسطين،
نحن الزعتر الذي كلّما داسوه فاح عبق الكرامة من جديد،
نحن أبناء التراب الذي خُلقنا منه ولن نتخلى عنه،
نحن من نعلم أن الحرب سجال، وأن النصر وعدٌ قادم لا محالة.
—
المعركة الحقيقية هي معركة وعي
ليست حربنا معركة صواريخ فحسب، بل معركة سردٍ ووعي.
من يملك القصة يملك المستقبل، ومن يكتب الرواية يوجّه الإدراك الجمعي.
ولهذا، فإنّ كسر احتكار الرواية الصهيونية هو الخطوة الأولى في طريق التحرير.
نعم، الحرب طويلة، لكنها لم تعد كما كانت؛ فالمارد الذي روّجوا له بات هشًّا، والمقاوم الذي حاولوا محاصرته صار رمزًا عالميًا.
ولأننا نؤمن أن وعد الله حق، فإننا ندرك أن نهاية الباطل مسألة وقت.
إنهم يتألمون كما نتألم، لكن الفرق أننا نرجو — وهم يفرّون.
ونحن باقون… كزيتونةٍ لا تنكسر، كحلمٍ لا يُمحى، وكحقيقةٍ تزداد ثباتًا كلما حاولوا طمسها.
نشر لأول مرة على: jabalamel.org
تاريخ النشر: 2025-10-23 09:54:00
الكاتب: جبل عامل
تنويه من موقع “yalebnan.org”:
تم جلب هذا المحتوى بشكل آلي من المصدر:
jabalamel.org
بتاريخ: 2025-10-23 09:54:00.
الآراء والمعلومات الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع “yalebnan.org”، والمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المصدر الأصلي.
ملاحظة: قد يتم استخدام الترجمة الآلية في بعض الأحيان لتوفير هذا المحتوى.