
فرنسا تُسلّح كييف… وروسيا تُحصّن دونباس: أوروبا أمام جغرافيا جديدة للقوة
كتب إدريس آيات -باحث “نيجيري”.. مختص في الشؤون الشرق أوسطية-الأفريقية والدراسات الاستراتيجية
أعلنت الصحافة العالمية والفرنسية اليوم عن صفقة تاريخية بين فرنسا وأوكرانيا، يُقال إنها تغيّر الكثير من المعادلة في الأمن الأوروبي.
على المستوى الجيوسياسي، يحمل الاتفاق الذي وقّعه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دلالة مفصلية في معادلة الأمن الأوروبي؛ ففي خضمّ حربٍ شاملة تخوضها روسيا ضدّ أوكرانيا، قررت باريس أن تنتقل من مربع المساعدات الظرفية إلى مربع الالتزام الاستراتيجي الطويل، عبر دخولها في شراكة صناعية–عسكرية متقدمة تُمكّن كييف من امتلاك قوة جوية ومنظومات دفاعية تُعد من بين الأعلى تطوراً في أوروبا.
لكن جوهر الاتفاق لا يكمن في تسليم الأسلحة أو نقل التكنولوجيا بقدرما هو هندسة تكامل صناعي مستقبلي بين كييف وباريس، يشي برغبة فرنسا في إعادة تعريف دورها داخل منظومة «أمن أوروبا»، وبترسيخ أوكرانيا كفاعلٍ محوري بعد الحرب.
فالاتجاه الجديد يعبّر عن قناعة فرنسية بأنّ الصراع في أوكرانيا تجاوز نزاعاً إقليمياً محدوداً، إلى اختبار لإعادة بناء النسق الأمني الأوروبي برمّته—نسق يقوم على قدرة أوكرانيا على «الردع»، وعلى إرسال رسالة واضحة إلى موسكو بأنّ أوروبا (وفي مقدمتها فرنسا) مستعدة للذهاب إلى أبعد من الدعم اللوجستي نحو شراكات تصنيع وتحالفات أمنية متينة.
ومن هذا المنظور، فإنّ «أهم» ما في الاتفاق ليس عدد الطائرات ولا عدد المنظومات، بل التحوّل من معادلة الإسناد الطارئ إلى معادلة شراكة استراتيجية ممتدة—صناعية وأمنية وسياسية—يُفترض معها أن تظهر أوكرانيا بوصفها شريكًا يعتمد عليه.
ويمكن تفسير الاتفاق عبر ثلاثة محاور مركزية:
البعد الاستراتيجي الأوروبي:
رغبة أوروبا في استعادة دورها في أمنها بعيداً عن التبعية الكاملة لواشنطن، عبر دولة محورية كفرنسا تختار التورط الصناعي–العسكري طويل الأمد.
البعد الردعي تجاه روسيا:
فكل قدرة جوية أو دفاعية تكتسبها أوكرانيا تُعدّ إضعافاً طويل المدى للهيمنة الروسية على الجبهة الشرقية، وتحدّ من قدرة موسكو على تحقيق اختراقات سريعة أو استعادة المبادرة الميدانية.
البعد السياسي–الرمزي:
إعلان صريح بأنّ أمن أوروبا مشروط بأمن أوكرانيا، وأنّ القوى الأوروبية الكبرى مستعدة لربط مصيرها الأمني بمصير كييف.
لكن المفارقة التي تكاد تثير السخرية أنّ فرنسا، التي بقيت تسع سنوات في منطقة الساحل وعجزت عن هزيمة خمسة آلاف مجاهدين يتنقلون على دراجات نارية، تريد اليوم بتكنولوجيا عسكرية متآكلة—بل تراجعت مكانتها حتى أمام شركات السلاح الصينية والروسية والتركية—أن تكون ضامنة لأمن أوكرانيا.
إنّ الهوس الفرنسي بأمن كييف ليس إلا تعبيراً غير مباشر عن هوسٍ بروسيا نفسها؛ فباريس التي خسرت مناجم الماس في إفريقيا الوسطى، والذهب في بوركينا فاسو ومالي، واليورانيوم في النيجر، ما زالت تتوهم أنها قادرة على كسر موسكو، بينما تكشف الوقائع أنّ ماكرون خسر كل مواجهة مباشرة مع بوتين، وبطرق مهينة.
لكن هل لاحظتم، وبطريقة مدهشة أنّ أحداً لم يعد يتحدث عن أوكرانيا كما كان يفعل قبل عامَين.
هل تساءلتم لماذا؟
الحقيقة أنّ الولايات المتحدة كانت العقل المدبّر لحملة «صمود أوكرانيا» إعلامياً: CNN وCBN وVOA… هي التي غذّت صورة أنّ كييف على وشك الانتصار لأنّ «الغرب خلفها»، وأنّ المطلوب من أوكرانيا فقط هو التنازل عن معادنها الاستراتيجية لصالح واشنطن.
وكانت نيويورك تايمز هي التي كشفت أنّ ترامب، فور وصوله إلى البيت الأبيض، طلب قائمة بالمعادن الاستراتيجية اللازمة لأمريكا في سباق التكنولوجيا ضد الصين، فجاءت في القائمة 54 معدناً نفيسًا واستراتيجيًا، ووفق التقرير منها 22 موجودة في الأراضي الأوكرانية.
وهذا ما يفسّر ضغط ترامب على زيلينسكي في واشنطن للتوقيع على الاتفاقية التي تمنح الشركات الأمريكية امتيازات التنقيب. لاحظنا رفض زيلينسكي أولاً، فهاجمه ترامب ووصفه ب” دكتاتور” وهدد بوقف المساعدات العسكرية.
كلوعندما انتقل زيلينسكي إلى أوروبا، نصحه الأوروبيون بالقبول، فوافق في النهاية. ومنذ اللحظة التي حصلت فيها الولايات المتحدة على ما تريد، تراجع الملف الأوكراني في سلّم الأولويات الدولية والأمريكية، وكأنّ الحرب قد هبطت إلى مستوى «القضايا الثانوية».
في الوقت نفسه، تشي التقارير بأنّ أوكرانيا تخسر كل أسبوع شبراً جديداً من أراضيها… ومعها أجيال كاملة.
إنها الرأسمالية المتوحشة حين تُدار الحروب بمنطق المناجم والإنسان وحياته غير جديرة بالاهتمام.
وليس هذا فحسب؛ فما يزيد في الطنبور نغمًا وحدّةً ويُثقل كاهل الحسابات الأوروبية أنّ التقارير الدولية تُجمِع اليوم على أنّ روسيا بصدد تحويل دونباس إلى أكبر قاعدة عسكرية مفتوحة في العالم. فمنذ فبراير 2022، أكدتُ أنّه لا يمكن للناتو أن يُحوِّل رومانيا إلى أكبر قلاعـه العسكرية في شرق أوروبا، ثم يتوقع في المقابل أن تترك موسكو الأراضي التي ضمّتها في أوكرانيا بلا عسكرة أو تحصين، فالجيوبوليتيك تردّ على التهديد بالتهديد دائمًا.
وفي عامي 2023 و2024، كان واضحًا أنّ النخب الأوروبية التي تراهن على «حقبة ما بعد بوتين» ليست سوى وهمٍ جديد يُضاف إلى قائمة الأوهام؛ فالفشل العسكري الأوكراني جعل فكرة استئناف الهجوم ضد روسيا بعد تغيّر القيادة السياسية في الكرملين ضربًا من الخيال.
وجاءت الخطوة المتهورة في أغسطس 2024—حين دفعت القوى الغربية أوكرانيا إلى اجتياح منطقة «كورسيك» الروسية—لتُسقط آخر أوراق الشك. فما كان يُنظر إليه كاحتمال أكاديمي بات حقيقة صلبة؛ روسيا ستتخذ من الأراضي التي بسطت عليها السيطرة فضاءً عسكريًا خالصًا، وستُعيد هندستها كي تصبح قاعدة ردعٍ مفتوحة لا تقل حجمًا أو تأثيرًا عن منظومات الناتو.
ولم يحتج المرء بعد مغامرة كييف الفاشلة في كورسيك تلك إلى صفة «خبير عسكري» ليدرك المرء أنّ الخيار الوحيد أمام موسكو لضمان استقرار حدودها الغربية هو عسكرة دونباس بالكامل وتحويله إلى قاعدة عسكرية عملاقة دائمة الحركة. ولهذا يجب أن تُمحى من الأذهان صورة القرى الهادئة التي يقطنها «الروس الجدد» في وئام مع جيرانهم الأوكرانيين في دونباس؛ فموسكو—في مواجهة أوكرانيا—ستعسكر دونباس.
بل إنّ روسيا لم تنتظر حتى تُطوى صفحة الحرب؛ فالنواقل العسكرية الثقيلة، وأنظمة التموضع القتالي، والبنى اللوجستية الضخمة، تتمركز بالفعل في عمق دونباس. والمناطق التي استعادت السيطرة عليها تحوّلت فعليًا إلى نطاقات عسكرية مغلقة تُدار وفق منطق الجبهات لا منطق المدن.
إنّ تداعيات الهزيمة الغربية في أوكرانيا ما زالت تتدحرج، ولم تظهر منها سوى الطبقة السطحية. أما ما سيأتي لاحقًا—حين تستقر خطوط إعادة التموضع الروسية–الأوروبية—فقد يكون أعمق وأخطر، وربما يعيد رسم الأمن الإقليمي الأوروبي من جديد، ولعقود!
أبرز النقاط الواردة في المقال:
• فرنسا وأوكرانيا وقّعتا صفقة تاريخية تُعيد تعريف الأمن الأوروبي.
• الاتفاقية تحوّل الدعم الفرنسي من مساعدات ظرفية إلى شراكة صناعية–عسكرية طويلة الأمد.
• أوكرانيا ستحصل على قوة جوية ومنظومات دفاعية متقدمة ضمن أعلى المعايير الأوروبية.
• الاتفاق يُعزز دور أوكرانيا كفاعل محوري في الأمن الأوروبي ويُضعف الهيمنة الروسية على الجبهة الشرقية.
• الولايات المتحدة ضغطت على أوكرانيا للحصول على امتيازات التنقيب عن المعادن الاستراتيجية.
• روسيا بصدد تحويل دونباس إلى أكبر قاعدة عسكرية مفتوحة في العالم لضمان استقرار حدودها الغربية.
• الهزيمة الغربية في أوكرانيا تُظهر فشل الرهانات على إعادة الهجوم بعد تغيّر القيادة الروسية.
نشر لأول مرة على: pravdatv.org
تاريخ النشر: 2025-11-18 15:21:00
الكاتب: قسم التحرير
تنويه من موقع “yalebnan.org”:
تم جلب هذا المحتوى بشكل آلي من المصدر:
pravdatv.org
بتاريخ: 2025-11-18 15:21:00.
الآراء والمعلومات الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع “yalebnan.org”، والمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المصدر الأصلي.
ملاحظة: قد يتم استخدام الترجمة الآلية في بعض الأحيان لتوفير هذا المحتوى.