كيف نقرأ قرار خفض الفوائد الأميركيّة؟
كيف نقرأ قرار خفض الفوائد الأميركيّة؟
للمرّة الثانية على التوالي هذا العام، قرّر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض أسعار الفائدة المستهدفة بمقدار ربع نقطة مئويّة (0.25%)، لتتراوح نسبة الفائدة المستهدفة حاليًا بين 3.75% و4%. وبموازاة هذا القرار، علّق رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول مشيرًا إلى أنّ خفضًا إضافيًا لنسب الفائدة في اجتماع كانون الأوّل المقبل لن يكون مضمونًا، تاركًا الاحتمالات مفتوحة بخصوص هذا القرار بعد شهر.
وللقرار، كما هو معلوم، تبعاته المهمّة على الأسواق الماليّة. فهو يؤشّر بوضوح إلى أهداف الاحتياطات الفيدرالي ووجهته، في ظل بيئة اقتصاديّة تتسم بارتفاع مستويات المخاطر وعدم اليقين، وأمام أولويّات متباينة يتطلّب تحقيق كلّ منها سياسات مختلفة. بهذا المعنى، كان القرار خيارًا جرى تحديده على حساب خيارات أخرى، بل وعلى حساب أولويّات أخرى.
فما هي الأولويّات التي اختار الاحتياطي الفيدرالي التركيز عليها في قراره هذا؟ وعلى حساب ماذا؟
أولويّات متعارضة
كان أمام الاحتياطي الفيدرالي، يوم أمس، مشهد معقّد. فمن ناحية، كان معدّل التضخّم، وفق ما أظهره مؤشّر أسعار المستهلكين، لا يزال مرتفعًا عند حدود تلامس الـ 3%، وهو ما يتجاوز بنحو 1.5 أضعاف النسبة التي يستهدفها الاحتياطي الفيدرالي، والمحدّدة عند مستوى 2%. ولا يوجد ما يؤشّر إلى أنّ هذه النسبة كانت في طريقها للانخفاض. بل وعلى العكس تمامًا، كانت التقارير الماليّة، ومنها دراسة مصرف غولدمان ساكس الأخيرة، تتوقّع أن تستمر الشركات الأميركيّة بتحميل المستهلكين كلفة الرسوم الجمركيّة الجديدة بشكلٍ متدرّج، عبر زيادة الأسعار. جيرمي باول نفسه يؤكّد على تأثير هذه الرسوم، إذ من دونها كان يمكن أن تتدنّى نسبة التضخّم إلى نطاق 2.3% أو 2.4%.
معدلّات التضخّم متصلّبة إذًا، ولم تنخفض إلى الحدود التي يتمناها الاحتياطي الفيدرالي. وهذا ما يقتضي -حفاظًا على قيمة الدولار الشرائيّة- التريّث قبل تخفيض الفوائد. الإفراط في خفض معدلات الفائدة، سيعني المزيد من الضغوط التضخمية على المدى المتوسّط، وهو ما تخشاه الأسواق أصلًا.
لكن ثمّة أولويّة أخرى، تتطلّب قراراً معاكسًا: عجلة الاقتصاد، التي يقتضي تحريكها التخلّي عن سياسة التشديد النقدي، أي استكمال عمليّة خفض الفوائد والتخلّي عن معدلاتها المرتفعة الحاليّة. ومعدّلات البطالة، كما تُظهر البيانات، ارتفعت إلى مستوى 4.3%، ما يشكّل أعلى نسبة لها منذ العام 2023. أمّا وتيرة التوظيف، فانخفضت بأكثر من 100 ألف وظيفة منذ الربيع الماضي، ما يدل على حجم الضغوط التي تعاني منها البلاد على المستوى الاقتصادي.
كان الاحتياطي الفيدرالي أمام خيارين: ضبط التضخّم عبر التريّث، وتأجيل قرار خفض الفوائد، أو تحريك عجلة الاقتصاد عبر الإسراع في دورة التيسير النقدي وخفض الفائدة. وأحجية الاحتياطي الفيدرالي، كمنت في مواجهته الإشكاليّتين معًا: التضخّم ومخاطر الركود، وهي حالة نادرة، لكنّها تهدّد بحصول سيناريو خطير: الركود التضخّمي، الذي يصعب مواجهته بسياسات التيسير النقدي التقليديّة، أي عبر خفض الفوائد.
أحجيات أخرى
كان أمام الاحتياطي الفيدرالي أحجيات أخرى يجب التعامل معها. فالإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة الأميركيّة حرم الاحتياطي الفيدرالي من مروحة واسعة من البيانات الحكوميّة، التي يفترض الاستناد إليها عند اتخاذ القرار. بطبيعة الحال، كان من الممكن أن يستند مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي إلى بيانات القطاع الخاص، وهو ما حصل بالفعل، لكنّ هذه البيانات تتيح رؤية أضيق وأكثر محدوديّة، لوضعيّة الاقتصاد الكلّي، مقارنة بالبيانات التي تعدّها الوكالات الفيدراليّة. من حيث المبدأ، غياب المعلومات كان يفترض أن يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى التريّث وعدم المغامرة. غير أنّ وجود مخاطر ملحّة، مثل الركود الاقتصادي، كان يمكن أن تدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى اتخاذ قرار ما، ولو وسط الضباب وغياب المعلومات، وهذا ما حصل بالفعل.
الأحجية الثانية بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، كان اسمها “دونالد ترامب”. كيف يمكن التعامل مع رئيس يتبنّى عقيدة تتعارض مع أبرز أهداف الاحتياطي الفيدرالي، أي الدفاع عن قيمة الدولار؟ وكيف يمكن التعامل مع رئيس لا يقيم الكثير من الوزن لبعض بديهيّات السياسة النقديّة في ديمقراطيّة راسخة مثل الولايات المتحدة، ومنها استقلاليّة الاحتياطي الفيدرالي عند اتخاذ القرارات الحاسمة؟ نحن أمام رئيس لا يمكن التوقّع بمزاجه، ولا بقراراته المستقبليّة التي يمكن أن تؤثّر على أوضاع الاقتصاد الكلّي. وهو مقتنع أنّ “إضعاف الدولار”، إلى حدود معيّنة، يمكن أن يخدم الحروب التجاريّة التي يخوضها مع البعيد والقريب على حدٍ سواء. مرّة أخرى، عدم اليقين مسألة تدعو للتريّث، لكنّ ضغط ترامب يدعو لخفض الفوائد.
القرار الأخير
جميع أعضاء المجلس صوتوا لمصلحة تخفيض معتدل محدود في معدلات الفائدة، بمقدار ربع نقطة مئويّة، باستثناء عضوين: أحدهم مقرّب من ترامب، ودعا لخفض الفائدة بمقدار نصف نقطة مئويّة، وآخر دعا للتريّث وعدم خفض الفائدة في الوقت الراهن. بهذا الشكل، فضّل الاحتياطي الفيدرالي التعامل مع مخاطر الركود، ومحاولة تحريك العجلة الاقتصاديّة، بدل الإصرار على محاربة التضخّم بالحفاظ على المعدلات الراهنة.
لكنّ الاحتياطي الفيدرالي لم يذهب بعيداً في الانصياع لضغط ترامب، ولم يقرّ تخفيضًا كبيرًا في نسبة الفائدة، كما لم يؤكّد على الاتجاه لتخفيض الفوائد مرّة جديدة خلال الشهر المقبل. بل وعلى العكس تمامًا، ربط باول أي قرار مستقبلي بحالة الإقفال الحكومي، وتوفّر البيانات التي يمكن الاستناد إليها، ما ترك المسألة معلّقة بانتظار اتضاح المشهد الاقتصادي.
في خلاصة الأمر، ستبقى الولايات المتحدة تسير على أرضٍ متحرّكة، وسط المخاوف من مسألتي التضخّم والركود. التضخّم يُبعد المستثمرين عن المراهنة على أي أصول مقوّمة بالدولار الأميركي، والركود سيزيد من ضغوط البطالة وانخفاض معدلات الإنتاج. وبين الخطرين، ثمّة إدارة أميركيّة لا تقيم الكثير من الوزن لاعتبارات الاحتياطي الفيدرالي ولا لأولويّاته، بل تريد تسييره بحسابات سياسيّة شديدة التقلّب، بما يبتعد عن الرصانة المطلوبة للتعامل مع الموقف.
■ مصدر الخبر الأصلي
نشر لأول مرة على: lebanoneconomy.net
تاريخ النشر: 2025-10-31 05:13:00
الكاتب: hanay shamout
تنويه من موقع “yalebnan.org”:
تم جلب هذا المحتوى بشكل آلي من المصدر:
lebanoneconomy.net
بتاريخ: 2025-10-31 05:13:00.
الآراء والمعلومات الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع “yalebnan.org”، والمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المصدر الأصلي.
ملاحظة: قد يتم استخدام الترجمة الآلية في بعض الأحيان لتوفير هذا المحتوى.




