العرب والعالم

سلام بنكهة أمريكية: هل توقع أوكرانيا اتفاقًا يكرّس نفوذ واشنطن؟

سلام بنكهة أمريكية: هل توقع أوكرانيا اتفاقًا يكرّس نفوذ واشنطن؟

سلام بنكهة أمريكية: هل توقع أوكرانيا اتفاقًا يكرّس نفوذ واشنطن؟


كتب الخبير الاستراتيجي و الأمني الأستاذ الدكتور حكيم غريب – الجزائر

تمهيد

في ضوء المعطيات الراهنة التي تشكّل مسار الحرب الروسية–الأوكرانية، يتجلّى أن التحرك الدبلوماسي الأمريكي لم يعد مجرد مبادرة لاحتواء النزاع، بل أصبح وسيلة لإعادة هندسة توازنات النفوذ في فضاء ما بعد الحرب.

فقبول أوكرانيا المبدئي بخطة سلام معدّلة، جرى تقليصها من ثمانية وعشرين بندًا إلى تسعة عشر بندًا، يكشف عن انتقال القرار الأوكراني نحو دائرة التأثير الاستراتيجي الخارجي، حيث تمارس واشنطن دورًا يتجاوز الوساطة إلى صياغة مستقبل أوكرانيا وفق معايير الأمن القومي الأمريكي، لا وفق معايير الأمن الوطني الأوكراني وحده. ويبدو أن الإعلان المتدرج عن التوافق لا يرتبط باعتبارات السيادة الأوكرانية بقدر ما يعكس رغبة الولايات المتحدة في إنهاء حرب مكلفة سياسيًا واقتصاديًا، من دون السماح لروسيا بتحقيق مكاسب قد تغيّر بنية النظام الدولي.

تقوم مقاربة واشنطن على توظيف السلام كأداة ردع سياسي، بحيث لا يُفضي إلى انتصار عسكري روسي، ولا يسمح في الوقت ذاته بتحرر كييف من دائرة الاعتماد الأمني الأمريكي. إن تعديل الخطة عبر حذف بنود تتعلق بالعفو العسكري وتقييد الجيش الأوكراني المستقبلي، يكشف عن نوايا تتصل بصناعة سلام لا يؤدي إلى انهيار القدرة الدفاعية الأوكرانية، لكنه يحول هذه القدرة إلى قوة منضبطة داخل منظومة نفوذ الأطلسي، بما يمنع موسكو من توظيف أي فراغ جيوسياسي محتمل.

وهذا يعني أن الحرب بالنسبة لواشنطن لم تعد معركة ميدانية، بل تحوّلت إلى اختبار لقدرتها على إدارة صراعات طويلة الأمد بتكلفة منخفضة، مع الاحتفاظ بحق التأثير في الجيوش الحليفة كوسيلة لضمان توازنات القوة بعد وقف القتال.

إن التسريب المتعمد لجزء من تفاصيل المفاوضات السرّية في أبوظبي، والتأكيد المستمر على ضرورة زيارة الرئيس الأوكراني إلى الولايات المتحدة، يشير إلى رغبة في إخضاع القرار السياسي في كييف لشرط “السلام المشروط”، أي السلام الذي لا يعبّر عن نهاية الصراع، بل عن إعادة تنظيمه داخل حدود جيوسياسية تتيح للأطراف الكبرى التحكم في مساراته. ويتطابق هذا المسار مع ما يمكن تسميته بـ “الحوكمة الاستراتيجية للنزاعات”، حيث تعمل القوى الكبرى على إدارة الحروب بوصفها فرصًا لإعادة توزيع القوة، وليس بوصفها أزمات آنية ينبغي إنهاؤها.

وعليه، فإن السؤال الجوهري لا يتعلق بإنهاء الحرب، بل بطبيعة النظام الدولي الذي ستنتجه اتفاقات السلام. إن “السلام الأمريكي” لا يبدو حلًّا نهائيًا بقدر ما يمثل بداية مرحلة جديدة تُحكم فيها أوكرانيا بمنطق السيادة المقيدة، حيث تتكرّس التبعية الأمنية ضمن حماية الأطلسي، وتُعاد صياغة حدود النفوذ الروسي في إطار اتفاق لا يلغي الصراع، بل يؤطره ضمن قواعد تفاهم تتيح موازنة الانخراط دون حسم. وهنا يصبح السلام ليس نهاية الحرب، بل تحوّلها من المستوى العسكري إلى مستوى الضبط الجيوسياسي طويل الأمد، بما يكرّس نفوذ واشنطن كفاعلة مهيمنة في مرحلة ما بعد المواجهة المسلحة.

أولًا: الخلفية الاستراتيجية

تتأسس المبادرة الأمريكية الخاصة بملف السلام في أوكرانيا على جذور استراتيجية تتجاوز فكرة إنهاء الصراع المسلح، لتندرج ضمن رؤية أوسع لإعادة تشكيل توازنات القوة في شرق أوروبا بعد مرحلة الاستنزاف العسكري. فمنذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، لم تتعامل واشنطن مع الأزمة باعتبارها نزاعًا إقليميًا بين دولتين، بل بوصفها حلقة مركزية في معركة إعادة ضبط موازين النفوذ الدولي في مواجهة روسيا الصاعدة ومحاولتها تقويض امتيازات النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. وبذلك، أصبحت الحرب ميدانًا لاختبار قدرة واشنطن على إدارة صراع طويل الأمد دون الانخراط المباشر في القتال، وفي الوقت نفسه الحفاظ على تماسك حلفائها الأوروبيين الذين أظهروا منذ بداية الأزمة تباينًا في درجة الاستعداد لتحمل تبعات مواجهة روسيا.

في هذا السياق، أدارت الولايات المتحدة الصراع وفق منطق الاستدامة العسكرية بدل الحسم العسكري، حيث زوّدت أوكرانيا بدعم دفاعي متدرج يمنع انهيارها، لكنه لا يسمح لها بتحقيق انتصار سريع قد يغير طبيعة التفاهمات الاستراتيجية الأطلسية. فالحرب بالنسبة لواشنطن ليست معركة يجب إنهاؤها فورًا، بل أداة لإعادة ترتيب المجال الجيوسياسي الأوروبي عبر إنهاك روسيا اقتصاديًا واستنزاف قدرتها على فرض أمر واقع على حدودها، وفي الوقت نفسه تكريس الاعتماد الأوكراني على المنظومات العسكرية الغربية، مما يجعل كييف جزءًا بنيويًا من استراتيجية الردع الأمريكية في مواجهة موسكو.

تحليل استراتيجي

تتأسس المبادرة الأمريكية الخاصة بملف السلام في أوكرانيا على جذور استراتيجية تتجاوز فكرة إنهاء الصراع المسلح، لتندرج ضمن رؤية أوسع لإعادة تشكيل توازنات القوة في شرق أوروبا بعد مرحلة الاستنزاف العسكري. فمنذ اندلاع الحرب في فبراير 2022، لم تتعامل واشنطن مع الأزمة باعتبارها نزاعًا إقليميًا بين دولتين، بل بوصفها حلقة مركزية في معركة إعادة ضبط موازين النفوذ الدولي في مواجهة روسيا الصاعدة ومحاولتها تقويض امتيازات النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. وبذلك، أصبحت الحرب ميدانًا لاختبار قدرة واشنطن على إدارة صراع طويل الأمد دون الانخراط المباشر في القتال، وفي الوقت نفسه الحفاظ على تماسك حلفائها الأوروبيين الذين أظهروا منذ بداية الأزمة تباينًا في درجة الاستعداد لتحمل تبعات مواجهة روسيا.

ثانيًا: أدوات النفوذ الأمريكي في صناعة السلام

توظّف الولايات المتحدة مجموعة من الأدوات المعقدة والمتشابكة لصناعة تسوية سياسية في أوكرانيا تخدم مصالحها الإستراتيجية، بحيث لا يكون السلام نتيجة انتهاء الصراع فحسب، بل آلية لإعادة ترسيم الفضاء الأمني الأوروبي على أسس أمريكية. وتتنوع هذه الأدوات بين الضغط غير المباشر وإعادة ضبط التوازنات، مرورًا بالتحكم في الموارد الاستراتيجية، وصولًا إلى توجيه القرار العسكري والسياسي في كييف، كل ذلك ضمن إطار يقدّم الولايات المتحدة بوصفها “ضامنًا للسلام” بينما تمارس عمليًا دور المهندس السياسي للنتائج.

النفوذ الأمريكي عبر بوابة الدعم العسكري والمالي

تبدأ أدوات النفوذ الأمريكي من التحكم في مسارات الدعم العسكري والمالي المقدّم إلى أوكرانيا، وهو دعم لا يشكل مجرد حماية لأمن كييف، بل يؤسس لاعتماد استراتيجي مستدام على الغرب. فالولايات المتحدة تملك القدرة على تسريع أو إبطاء الدعم النوعي مثل أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة والصواريخ بعيدة المدى، وهو ما يجعل القدرة الدفاعية الأوكرانية مرهونة بقرار واشنطن، وبالتالي يتحول الدعم العسكري إلى وسيلة تأثير على شكل التسوية القادمة، وليس مجرد أداة لصد الهجمات الروسية. وهذا التحكم في الإمدادات يتيح للولايات المتحدة إعادة توجيه مسارات الحرب بما يمنع كييف من اتخاذ قرارات منفردة خارج نطاق الرؤية الأمريكية.

في المقابل، تستخدم واشنطن آلية العقوبات الاقتصادية على روسيا كأداة تفاوضية ضمن ما يمكن تسميته “سلام مقابل رفع مدروس للعقوبات”، حيث لا تسعى الولايات المتحدة إلى انتصار ساحق على روسيا، بل إلى إدماجها في نظام دولي مستقر يخضع لقواعد أمريكية، عبر تسوية تضمن انخراط موسكو في ترتيبات أمنية لا تسمح لها بالتوسع العسكري خارج حدودها.

كما تُوظف العقوبات كوسيلة لإنتاج ردع اقتصادي طويل الأمد يجعل الكلفة الاستراتيجية للحرب أعلى من مكاسبها الجيوسياسية بالنسبة لروسيا، ما يدفعها إلى قبول سلام غير مريح، لكنه أقل ضررًا من مواصلة الاستنزاف.

الهندسة القانونية للسلام كأداة تأثير أمريكي

من ناحية ثالثة، تستثمر الولايات المتحدة في الهندسة القانونية لعقود السلام عبر حذف أو تعديل البنود التي يمكن أن تمنح أوكرانيا استقلالًا أمنيًا كاملاً، كما حدث عندما أُزيلت بنود مرتبطة بالعفو العسكري وتقليص حجم الجيش الأوكراني المستقبلي. هذا التعديل لا يعكس تساهلًا مع كييف، بل إعادة تصميم لقوة الجيش بحيث تبقى فعّالة عسكريًا، لكنها غير قادرة على الخروج عن المعايير الأطلسية، وبذلك يتحول السلام إلى صيغة تضمن لأمريكا تأثيرًا طويل الأمد على العقيدة الدفاعية الأوكرانية.

أخيرًا، لا يمكن فصل هذه الأدوات عن الدور الدبلوماسي التدخلي الذي تقوم به واشنطن عبر محادثات سرية في جنيف وأبوظبي، فهذه اللقاءات ليست مفاوضات بين أطراف متساوية، بل عملية تنسيق استراتيجي تُدار من قبل الولايات المتحدة لتحديد سقف التنازلات المسموح بها لكل طرف، بما يحوّل الحوار إلى إطار إجرائي لوضع اللمسات النهائية على رؤية أمريكية مسبقة. وهكذا، يتحول السلام من عملية تفاوض إلى هندسة سياسية واقعية ترسم مستقبل الصراع بما يخدم ثوابت الأمن القومي الأمريكي.

ثالثًا: حدود القبول الروسي بالسلام الأمريكي؟

لا ينفصل موقف موسكو من المقترح الأمريكي للسلام عن تصورها الأشمل للصراع، والذي لم يكن يومًا مقتصرًا على أوكرانيا كدولة جارة، بل باعتبارها ساحة صراع مع الغرب على هوية النظام الدولي وموقع روسيا فيه. فبالنسبة للكرملين، أي صيغة سلام لا تُعيد تعريف موقع موسكو كقوة أمنية مركزية في أوراسيا ستُعدّ هزيمة استراتيجية، حتى وإن توقفت الحرب ميدانيًا. ومن هنا تقوم محدودية القبول الروسي على معادلة دقيقة تسعى موسكو من خلالها إلى تحويل التسوية من حلّ للصراع إلى اعتراف بدورها كفاعل منظم لموازين القوى في الإقليم، لا مجرد طرف منهزم يسعى لحماية ما تبقى من نفوذه.

تبدو ملامح ذلك جليّة في تصريحات المسؤولين الروس الذين أكّدوا، بعد محادثات جنيف، أنهم لم يتلقوا تحديثات كاملة عن الصياغة النهائية للخطة، وهو موقف يهدف إلى إبقاء واشنطن في موقع المعرِّف للنظام دون منحها شرعية كاملة للقيادة. فروسيا تدرك أن التسوية بصيغة أمريكية ستقيّد حركتها العسكرية المستقبلية، لذلك تحاول تحويل الاتفاق من وقف إطلاق نار إلى صفقة توازن مصالح، تتضمن اعترافًا غير مباشر بوجود “منطقة أمنية روسية” على حدودها الغربية، قد لا تكون بالضرورة جغرافية بقدر ما هي سياسية وأمنية.

كما تسعى موسكو إلى ضمان عدم تحوّل أوكرانيا، ما بعد السلام، إلى منصة تهديد استراتيجي من خلال إعادة تموضعٍ بملامح أطلسية غير معلنة. وعليه، فإن اعتراضات روسيا ليست على صياغة البنود التقنية كحجم الجيش أو العفو العسكري، بل على سقف التوجه الاستراتيجي لكييف. فهي تريد سلامًا لا يعيد بناء أوكرانيا كدولة حرة سياديًا في قرارها الدفاعي، وإنما كدولة منزوعة القدرة على التحرك المستقل ضمن المجال الأمني الغربي. وهو ما يضع الولايات المتحدة أمام تحدي صياغة اتفاق لا يختزل طموح موسكو أمام رئيها الوطني، ولا يسمح لها، في الوقت ذاته، بفرض نموذج سلام المنتصر.

وتبرز الحدود الأكثر حساسية في البعد الرمزي للتسوية، فبالنسبة لروسيا، الاعتراف بأي صيغة تُظهر الحرب كفشل، سيضعف مشروع إعادة بعث “الدولة الروسية العظمى”. لذلك، تشترط موسكو سلامًا قابلًا للتسويق داخليًّا كإنجاز جيوسياسي، لا كتنازل اضطراري. ولهذا، لا تمانع القنوات غير الرسمية و“المسودات القابلة للتعديل”، لأنها تمنحها مجالًا لعرض الاتفاق كنتاج تفاوض عقلاني متكافئ، لا كمحصلة ضغوط اقتصادية وعسكرية. من هنا يمكن فهم قول لافروف إن الخطة يجب أن تعكس “روح ونص قمة ألاسكا”، أي أن روسيا تريد تسوية تُعادل موقعها كمفاوض مع واشنطن، لا كطرف يُملى عليه السلام.

وعليه، فإن حدود القبول الروسي ليست بنودًا مكتوبة، بل معادلة سيادية رمزية تنص على: سلام لا يفرض الهزيمة، ونفوذ لا يستدعي حربًا جديدة. وهو ما يجعل السلام الأمريكي بالنسبة لموسكو مشروعًا قابلًا للتفاوض، إلا أنه غير قابل للقبول إذا كان ثمنه إلغاء روسيا كقوة أمنية كبرى في الإقليم.

رابعًا: أوكرانيا بين السيادة المشروطة والاعتماد الأمني

تواجه أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب معادلة سيادية بالغة التعقيد، تتجسد في انتقالها من دولة تبحث عن حماية ضد التوسع الروسي إلى دولة قد تُدار سياساتها الدفاعية من داخل منظومة أمنية تقودها واشنطن. فالموافقة المبدئية على خطة سلام أمريكية لا تعبّر عن اختيارٍ حرّ بقدر ما تعكس إكراهات جيوسياسية فرضتها البنية الأمنية الهشة لأوكرانيا، والتي أصبحت منذ عام 2022 معتمدة بشكل شبه كامل على الدعم العسكري والمالي واللوجستي الغربي. وهذا الاعتماد لا يُمثل ضمانًا لسيادة أوكرانيا بقدر ما يحوّلها إلى طرف تابع في منظومة أمنية أوسع تمتلك فيها الولايات المتحدة القدرة على تحديد شكل الجيش الذي سيحمي الدولة، وحدود سلوكه، ومستوى قدراته المستقبلية.

السيادة الأوكرانية بين الحماية والاعتماد الأمني

إن قبول كييف بتسوية سلام لا يضمن استعادة كل الأراضي المتنازع عليها،
ويتيح إعادة هيكلة جيشها بما يتوافق مع المعايير الأطلسية،
يعني أن السيادة الأوكرانية تنتقل من مفهوم
“السيادة الكاملة”
إلى نموذج
“السيادة المقيدة تحت الحماية”،
حيث تصبح الدولة مستقلة في قرارها السياسي الداخلي، لكنها غير مستقلة في صياغة استراتيجيتها الدفاعية والعسكرية.
ومن هنا، لا يمثّل السلام بالنسبة لأوكرانيا نهاية الحرب بل مرحلة إعادة تشكيل الدولة
في إطار
تبعية أمنية منظمة
تعتمد على واشنطن بوصفها الضامن الوحيد لردع روسيا مستقبلًا،
وهو ضمان يحتاج إلى امتثال دائم للسياسات الغربية،
ما يجعل بقاء أوكرانيا داخل مجال النفوذ الأمريكي
ثمنًا لأي أمن محتمل.

في هذا السياق، تتحول السيادة إلى سلعة سياسية قابلة للتفاوض، فكل زيادة في مستوى الحماية العسكرية الأمريكية تُقابلها تناقص في حرية القرار العسكري المستقل. وهو ما يظهر من خلال التعديلات التي أجريت على خطة السلام عبر حذف بنود تتعلق بالعفو عن الانتهاكات العسكرية وتعديل القيود على حجم الجيش. هذه التعديلات لا تهدف إلى تعزيز استقلالية أوكرانيا، بل إلى ضبط قوة الجيش ضمن هندسة دفاعية لا تسمح بالانفصال عن المظلة الغربية. وهكذا تصبح أوكرانيا دولة مسموح لها أن تمتلك جيشًا قويًا، ولكن ليس جيشًا مستقلًا عن بنية الردع الأطلسية.

وتتعمق هذه المفارقة عندما يُنظر إلى السلام بوصفه أداة إعادة ضبط للهوية الجيوسياسية للدولة الأوكرانية. فخيار كييف المستقبلي لن يكون بين الحياد والانتماء إلى الغرب، بل بين تفاوت درجات الارتباط المؤسسي بالولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.

وهذا يعني أن أوكرانيا لن تُعاد بناؤها كدولة محايدة في علاقاتها الدولية، بل كدولة جدار استراتيجي يفصل بين روسيا وبقية أوروبا، ويضمن استمرار النفوذ الأمريكي في المنطقة من خلال تبعية أمنية قابلة للضبط والتعديل، تُدار عبر آليات المساعدات العسكرية والتدريب المشروط والتسليح المراقَب.

وبذلك، فإن أوكرانيا، في مرحلة ما بعد الحرب، لا تستعيد سيادتها عبر السلام، بل تعيد تعريف سيادتها وفق حدود الحماية الأمريكية. فهي لن تكون دولة تابعة بالكامل، لكنها لن تكون مستقلة بالكامل أيضًا، بل دولة ذات سيادة مُدارة، تقوم وظيفتها الجيوسياسية على تثبيت ميزان قوى لا تتحكم فيه، بل تُستخدم داخله كأداة توازن. وهنا يتحول السلام من حق سيادي إلى ترتيب أمني طويل الأمد يحمي الدولة من خصمها، لكنه يربطها إلى الأبد بيد الحليف الذي يصنع شروط حمايتها.

خامسًا: السيناريوهات المستقبلية لمعادلة السلام الأمريكي–الروسي–الأوكراني

تطرح المؤشرات الراهنة لمسار المفاوضات غير المعلنة بين واشنطن وموسكو وكييف احتمالات متباينة لمآلات “السلام المقترح”، يمكن قراءتها في ضوء تداخل محددات القوة العسكرية على الأرض مع حسابات النفوذ السياسي لدى الأطراف الثلاثة. فالسلام هنا لا يُفهم بوصفه نقطة نهاية للصراع بقدر ما يمثل عملية مستمرة لإعادة توزيع الأدوار داخل الفضاء الأوروبي، ما يجعل السيناريوهات الممكنة أقرب إلى مسارات مفتوحة منها إلى حلول نهائية مغلقة. وفي هذا الإطار، يمكن الحديث عن ثلاثة اتجاهات كبرى تشكّل هيكل الاحتمالات المستقبلية دون ادعاء الحصر أو الجزم بمآل واحد محدد.

السيناريو الأول: سلام تفاوضي غير مكتمل

في السيناريو الأول، يتجّه المسار نحو سلام تفاوضي غير مكتمل، تُفرض فيه تسوية سياسية تُجمّد خطوط التماس
الحالية أو تُعيد رسمها بقدر محدود، مع الإبقاء على أوكرانيا في وضع “الحليف المحمي” ضمن المظلة الأمريكية.
في هذا التصور، تُقبل موسكو باتفاق لا يحقق كل أهدافها التوسعية لكنه يؤمّن لها اعترافًا ضمنيًا بنفوذها في بعض
المناطق، بينما تحصل واشنطن على أوكرانيا كمنصة نفوذ طويل الأمد، وتُقدَّم التسوية للرأي العام العالمي بوصفها
نهاية حرب، في حين أنها في الجوهر بداية مرحلة جديدة من صراع بارد مكثّف.
هذا السيناريو يحافظ على بنية الردع المتبادل، ويحوّل أوكرانيا إلى منطقة تماس مضبوطة لا إلى ساحة حرب مفتوحة،
مع استمرار الضغوط الاقتصادية والعقوبات كأدوات إدارة للصراع بدل اللجوء المباشر للقوة.

السيناريو الثاني: حرب مستمرة بتفاوض مفتوح

أما السيناريو الثاني فيتجه نحو استمرار الحرب في ظل تفاوض مفتوح، أي أن تُستخدم المفاوضات كغطاء لإعادة
تموضع عسكري وسياسي لكل طرف، من دون الوصول إلى اتفاق ملزم.
في هذا الوضع، تتحوّل اللقاءات في جنيف وأبوظبي وغيرها إلى منصات لقياس إرادة الخصم واختبار حدود التنازل،
بينما يبقى الميدان محكومًا بمنطق الاستنزاف المتبادل.
هذا السيناريو يعبّر عن فشل في تحويل المقترح الأمريكي إلى صيغة مقبولة لروسيا أو أوكرانيا أو كليهما،
ويُبقي واشنطن في وضعية تدير فيها حربًا طويلة بكلفة عالية نسبيًا لكنها لا تريد الخروج منها خشية ترك فراغ
تستفيد منه موسكو.
في المقابل، تدرك روسيا أن استمرار الحرب، رغم كلفته، يبقى أقل إساءة لصورتها من قبول اتفاق يُسوَّق داخليًا كهزيمة،
ما يدفعها إلى إطالة أمد الصراع على أمل تعديل ميزان التفاوض في وقت لاحق.

السيناريو الثالث: تفكك المسار واتساع دائرة الوسطاء

في السيناريو الثالث، يبرز احتمال تفكك مسار السلام لصالح إعادة تشكيل توازنات جديدة خارج الإطار الأمريكي المباشر،
سواء عبر دخول أطراف دولية أخرى على خط الوساطة أو عبر مبادرات إقليمية تسعى لتدويل ملف التسوية بعيدًا عن
الهيمنة الأمريكية وحدها.
في هذا السياق، قد تسعى روسيا إلى استثمار علاقاتها مع قوى كالصين أو بعض القوى الإقليمية لتقوية موقفها التفاوضي،
بينما يمكن لأطراف أوروبية متضررة من طول أمد الحرب أن تضغط باتجاه صيغة سلام أقل تشددًا من الطرح الأمريكي.
هذا السيناريو لا يعني استبعاد واشنطن من المعادلة، ولكنه يشير إلى تعدد مراكز إنتاج الحلول، بما يضعف قدرة
الولايات المتحدة على صياغة اتفاق “بنَكهة أمريكية خالصة”، ويفتح الباب أمام تسوية أكثر توازنًا من حيث الاعتراف
بالمصالح الأمنية الروسية مقابل ضمان بقاء أوكرانيا دولة قابلة للحياة سياسيًا واقتصاديًا.

ما يجمع هذه السيناريوهات هو أن السلام في حد ذاته لم يعد غاية أخلاقية أو قانونية فقط، بل تحول إلى أداة هندسة للنظام الأمني الأوروبي. فسواء استقر المسار عند تسوية تفاوضية هشّة، أو استمر الصراع تحت سقف تفاوضي مفتوح، أو تعددت قنوات الوساطة وتوازن النفوذ، فإن معادلة السلام الأمريكي–الروسي–الأوكراني ستبقى محكومة بمنطق إدارة القوة أكثر من منطق إنهاء الحرب. وفي ضوء ذلك، يصبح السؤال المركزي ليس: هل سيتحقق السلام؟ بل: أي نوع من السلام سيتم فرضه؟ ولصالح أي هندسة جديدة لموازين القوى؟

الخبير الاستراتيجي والأمني
الأستاذ الدكتور حكيم غريب – الجزائر

باحث في الشؤون العسكرية والجيوسياسية والأمنية

أبرز النقاط الموسّعة


التحرك الأمريكي لم يعد وساطة بل عملية إعادة صياغة للنفوذ الأوروبي بالكامل.


تقليص الخطة من 28 إلى 19 بندًا يعكس عمق التدخل في السيادة الأوكرانية.


واشنطن تدير مسار الحرب بتسريع أو إبطاء الدعم العسكري حسب مصالحها.


الدعم الأمريكي أصبح أداة ضغط وليست حماية مجانية لأوكرانيا.


موسكو ترفض أي سلام يصوّرها كقوة مهزومة أو فاقدة للنفوذ الإقليمي.


روسيا تتمسك بفكرة وجود “منطقة أمنية روسية” حتى لو كانت سياسية فقط.


التسوية يجب أن تُسوّق في الداخل الروسي كإنجاز جيوسياسي وليس كتراجع.


أوكرانيا تتجه نحو سيادة مقيدة تحت حماية أمنية غربية طويلة الأمد.


الجيش الأوكراني سيُعاد هيكلته بما يمنع استقلاله عن القرارات الأطلسية.


كييف تتحول إلى “جدار استراتيجي” يفصل بين روسيا وأوروبا.


السيناريو الأول: سلام هش يُجمّد خطوط التماس ويحافظ على النفوذ الأمريكي.


السيناريو الثاني: حرب مفتوحة تحت غطاء مفاوضات من دون اتفاق نهائي.


السيناريو الثالث: تعدد وسطاء دوليين وكسر الاحتكار الأمريكي للمسار.


السلام الأمريكي هو هندسة جديدة للصراع بأدوات سياسية واقتصادية.


جوهر الخطة: فرض وصاية أمنية أمريكية على أوروبا الشرقية عبر أوكرانيا.


الخطر الأكبر: إعادة تشكيل حدود السيادة الأوكرانية تحت سقف واشنطن.



■ مصدر الخبر الأصلي

نشر لأول مرة على: pravdatv.org

تاريخ النشر: 2025-11-26 16:18:00

الكاتب: قسم التحرير

تنويه من موقع “yalebnan.org”:

تم جلب هذا المحتوى بشكل آلي من المصدر:
pravdatv.org
بتاريخ: 2025-11-26 16:18:00.
الآراء والمعلومات الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع “yalebnan.org”، والمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المصدر الأصلي.

ملاحظة: قد يتم استخدام الترجمة الآلية في بعض الأحيان لتوفير هذا المحتوى.

c3a1cfeb2a967c7be6ce47c84180b62bff90b38d422ff90b8b10591365df9243?s=64&d=mm&r=g
ahmadsh

موقع "yalebnan" منصة لبنانية تجمع آخر الأخبار الفنية والاجتماعية والإعلامية لحظة بلحظة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى