لبنان

وهم السراب… حين يتحوّل التفاوض إلى إسقاط الحقوق

وهم السراب… حين يتحوّل التفاوض إلى إسقاط الحقوق

| خضر رسلان | كاتب وإعلامي لبناني

في زمنٍ تتكاثر فيه المبادرات والمقترحات وتكثر فيه الوفود الدولية والوسطاء، يعود الحديث عن «فرصة تفاوضية جديدة» بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي. مشهدٌ يُذكّر بصفحات من التاريخ القريب، حيث كان الوعد «سلاماً مقابل السلام»، ثم «سلاماً مقابل الأمن»، ثم «سلاماً مقابل الوعود»، وانتهى الأمر بأن صار السلام سراباً يلاحق الشعوب بينما الاحتلال يتمدّد.

إنّ الحديث عن تفاوض جديد اليوم ليس بريئاً في توقيته ولا في أهدافه. فالمعادلة التي يحاول البعض تسويقها، باسم الواقعية السياسية، تنطوي على خطر إسقاط القرارات الدولية التي كرّست الحقوق اللبنانية والعربية والفلسطينية. فكيف يُعقل أن يتنازل لبنان طوعاً عن قرارات أممية واضحة وصريحة من القرار 425 إلى القرار 1701 فضلا عن اتفاقية الهدنة لتُفتح طاولة تفاوض بلا سقف، ولا ضمانة، ولا التزام من الطرف المعتدي؟

الخبرة التاريخية لا تبعث على التفاؤل. فالتجربة الفلسطينية خير دليل على أن التفاوض من دون ضوابط يتحوّل إلى تنازل عن الحقوق.

اتفاق أوسلو، الذي وُعد الفلسطينيون بأنه سيقود إلى دولة خلال خمس سنوات، صار بعد ثلاثة عقود وثيقة لتكريس الاحتلال وتوسيع المستوطنات وإلغاء حقّ العودة. وهكذا تحوّل “السلام” إلى وهمٍ يشبه السراب، كلّما اقتربت منه الشعوب وجدته يبتعد أكثر، فيما تُنتزع الأرض وتُغتال الذاكرة.

في هذا المناخ، جاء بيان حزب الله الأخير ليقدّم مقاربة وطنية متكاملة، رافضاً الانجرار إلى أي مسار تفاوضي جديد خارج إطار القرار 1701. البيان، الصادر في السادس من تشرين الثاني 2025، لم يكن مجرّد ردّ سياسي، بل وثيقة تفسيرية تعيد تحديد موقع لبنان القانوني والسيادي بعد إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، والذي جاء ثمرة مفاوضات غير مباشرة عبر الموفد الأميركي آموس هوكشتاين.

يؤكّد الحزب في بيانه أنّ إعلان وقف إطلاق النار هو آلية تنفيذية للقرار 1701، لا اتفاق جديد، وأنّ أي محاولة لتوسيع نطاقه نحو تفاوض سياسي تمهّد لتعديل جوهر القرار ولمصلحة العدو. فالمطلوب، بحسب البيان، ليس فتح باب حوار جديد مع الاحتلال، بل إلزامه بوقف خروقاته الجوية والبرية والبحرية والانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة، لا سيّما مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.

وفي وجه الدعوات التي تُحاول إدخال ملف “ ة السلاح” في دائرة الضغوط الدولية، حذّر الحزب من تحويل هذا العنوان إلى شرط تفاوضي يخدم الابتزاز الإسرائيلي، مؤكداً أن موضوع السلاح الوطني المقاوم شأنٌ لبناني داخلي يُبحث في إطار وطني جامع، لا بإملاءات أجنبية أو عبر وسطاء. فالعدو، كما جاء في البيان، لا يستهدف فصيلاً بعينه، بل يستهدف قدرة لبنان على الرفض والمقاومة، ويسعى إلى نزع عناصر القوة التي تردعه عن العدوان.

إنّ قراءة بيان الحزب في سياق التطورات الأخيرة تكشف بوضوح أنّ المعركة اليوم ليست عسكرية فقط، بل سياسية ومعنوية أيضاً. فالاحتلال الذي عجز عن تحقيق أهدافه في الميدان يحاول عبر الطاولة السياسية أن ينتزع بالضغط ما لم يحصل عليه بالقوة. والرهان على «التفاوض» في مثل هذا المناخ ليس سوى إعادة إنتاج للوهم ذاته الذي عاشته المنطقة منذ مدريد وأوسلو ووادي عربة: وعود بالسلام، وواقع من الاحتلال الدائم.

ما يطرحه الحزب لا ينفصل عن موقف وطني أوسع، عبّر عنه الرئيس نبيه بري مراراً، حين قال: «أعطوني وحدة وطنية، أعطيكم نصراً». وترجمة هذه المعادلة اليوم هي في التوحّد الوطني حول قرار واحد و ، هو تطبيق القرار 1701 واتفاقية الهدنة، والتمسّك بقرارات الأمم المتحدة التي تُلزم العدو بالانسحاب إلى الحدود الدولية فوراً ودون حاجة إلى تفاوض. فالوحدة ليست شعاراً بل ممارسة سياسية واضحة، تقوم على تثبيت حق لبنان في أرضه وسيادته لا على مقايضتها بوعود أو صيغ غامضة.

إنّ جوهر المعركة اليوم هو بين من يصدّق السراب ومن يرى الحقيقة. الحقيقة أن لا تفاوض مع عدوٍ لا يحترم عهداً، وأنّ التمسّك بقرارات الأمم المتحدة وبحق المقاومة والدفاع هو الضمانة الوحيدة لحفظ السيادة. أمّا الذين يلهثون وراء «وعود» لا وجود لها إلا في البيانات، فهم كمن يسير خلف سرابٍ في صحراء الاحتلال، كلّما اقترب منه، ابتعدت الأرض أكثر تحت قدميه.

لقد قال التاريخ كلمته: من فاوض على حقّه خسره، ومن صان كرامته انتصر. ولبنان اليوم أمام هذا الامتحان مجدداً إمّا أن يتمسّك بثوابته في وجه السراب، أو يُترك ليذوب في رمال الوهم.



■ مصدر الخبر الأصلي

نشر لأول مرة على:jabalamel.org

تاريخ النشر:2025-11-08 09:19:00

الكاتب:جبل عامل

تنويه من موقع “yalebnan.org”:

تم جلب هذا المحتوى بشكل آلي من المصدر:
jabalamel.org
بتاريخ:2025-11-08 09:19:00.
الآراء والمعلومات الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن موقع “yalebnan.org”، والمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المصدر الأصلي.

ملاحظة:قد يتم استخدام الترجمة الآلية في بعض الأحيان لتوفير هذا المحتوى.

وهم السراب… حين يتحوّل التفاوض إلى إسقاط الحقوق
وهم السراب... حين يتحوّل التفاوض إلى إسقاط الحقوق
c3a1cfeb2a967c7be6ce47c84180b62bff90b38d422ff90b8b10591365df9243s64038dmm038rg
ahmadsh

موقع "yalebnan" منصة لبنانية تجمع آخر الأخبار الفنية والاجتماعية والإعلامية لحظة بلحظة، مع تغطية ة ومواكبة لأبرز نجوم لبنان والعالم العربي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى