لبنان

السنة السادسة.. وأمّي الخيّاطة يبكيها المطر

السنة السادسة.. وأمّي الخيّاطة يبكيها المطر

بقلم// جهاد أيوب

تمر السنون وأمي في سبات عميق لا يليق لها النوم…

انهضي…

امسكي قرص الشمس فأنت وهجها

وانفضي فراشة الجسد

فأنت روحها…

حينما وصل الجسد الطاهر إلى مكان راحته، ومن ثمّ ليذوب في تراب الوطن، ومعه كلّ تعب السنين، ومشاوير عقود القهر والصدمات والأمل. طلبوا إليّ التنحّي كي يسقطوا غطاء الأرض على جسد أمّي!

صدمت قليلاً.. لم أتنفّس، فقط تنهّدت، والصمت منذ لحظة تلقّي الخبر سجنني في زنزانة الغياب!

طلبوا منّي أن أترك المكان، في تلك اللحظة سقط قلبي في قبر أمّي، وأصبح شريكاً لها… إنّهم يضعونها تحت التراب، الآن تختنق أمّي، كيف أتركها تلتحف التراب؟

لم أعد أدرك ما حدث معي!

رفضت الانتقال، وقرّرت البقاء، وأنا أردّد: “أمّي تختنق تحت التراب”!

كانت لحظة زمنيّة قاتلة، خنقتني قبل أن أفكّر، ألغت كياني قبل البوح، وبوحي يشبه التعلّق بلعبتي، ولعبتي روحي، وروحي أمّي!

نعرني أحدهم بكلامه: “ما بالك، لقد ارتاحت من تعب الدّنيا ومن همّ اللحظات الموجعة… إنّها اليوم في قلب العادل… اتركها حيث هي، ودعنا نذهب لتقبّل العزاء…”

تلبّسني الصمت من جديد، لا بل أنا أصبحت الصمت، ونظراتي احتلّها الضجيج، وضجيجي هو الصمت العميق، وعمقي اعتزل العمر واختزل اللحظة، ولحظتي في وقتها كيان العالم..!

وتدبّرت الحكاية التي تاهت بباطني، واعتزلت التفكير، وشعرت لأوّل مرّة بارتجاف قلبي، وقلبي ينتشل جسدي من تحت التراب…

مشيت مع المشيّعين، روحي تدمع وأنا على طريق لا ينتهي، ظنوني بقيت هناك عند أمّي، ماذا حدث معها، وكيف مشيت وابتعدت عنها وهي تتألّم وحيدة في ظلام هالك…

الخيّاطة أمّي وجيهة حوماني “إم رشيد” تكون هناك قد باشرت بحياكة ما صنعته في الدنيا، وقد طال الثوب ليصل إلى جنّتها المعهودة… أجزم بسرعة البرق أنّها صنعت ثوبها الأبيض، وعادت الرشاقة إلى عمرها، وغمرت حياتها الجديدة بسعادة الأطفال مثلما كانت فوق الأرض…

أمّي رعت الأيتام، ومنزلتها عالية عند الرحمن.

أمّي التي كانت تصلّي حينما الخناجر تطعنها، لم تؤمن بالحقد والضغينة.

وأمّي التي يزورها الربيع على رغم قساوة الأيّام بقيت أمينة للفرح حتّى لا نصاب بالحزن والعِقد…

وأمّي التي زرعت الأناقة والذوق والجمال أينما حلّت لم تبخل على توزيع ما لديها، ولم تسأل الإرهاق إذا ما أصيب بالتعب، ومن دون سؤال قدّمت له السعادة وهي مقتنعة بها حتّى الرمق الأخير…

وأمّي سيدة الحديث المهذّب، وملكة النظافة في الحياة وفي الحظور وفي عالم يسوده السواد، لكنّها تفرش بياض قلبها كي تنتصر… وانتصرت!

وأمّي في ذكرى رحيلها السادسة لا تزال شمعتها مضاءة، تزورنا كلّما احتجنا إلى مشورتها، كانت بجانبنا في الحياة، وهي في مماتنا تحتلّ الأحلام!

وأمّي وجيهة حوماني “إمّ رشيد أيوب” يفوح عطرها على ألسنة الجميع، كانت قد زرعت الخير والجمال والأناقة، ونثرتها في حديثها وتصرّفاتها وكلماتها، وبثّتها في كلّ الأمكنة التي احتلّتها بذوقها وحلمها، وتركت لنفسها التعب والصبر والدموع دون أن تشعرك بذلك، وكان همّها إسعاد من حولها…

وأمّي الخيّاطة اللبقة تغيّرت الدنيا بعد رحيلها، وبعد أن سكبت ماء الطهر على زهورنا، ونشرت عطر السيرة على قصّتها، وتركت لمن عرفها قطاف سحر جمال وجودها، باغتها الموت في لحظات كنّا ولا نزل نحتاجها!

سرقها الزمن إلى عالمه السرابيّ كي يؤكّد لنا السيرة الحسنة ومعنى جهاد المرأة إن قرّرت الجهاد والصبر والأحلام…

وجهاد أمّي كان في حلمها وعملها…وصبر أمّي جاء من إيمانها بالخالق، من عمق فهمها البسيط لوجودها ولدورها… وأحلام أمّي أن تقدّم الحياة بصورة تليق بالحياة لترحل بعدها بهدوء البسمة، تاركة خلفها المطر يبكي عليها…



■ مصدر الخبر الأصلي

نشر لأول مرة على: jabalamel.org

تاريخ النشر: 2025-12-30 15:19:00

الكاتب: جبل عامل

تنويه من موقع “yalebnan.org”:

تم جلب هذا المحتوى بشكل آلي من المصدر:
jabalamel.org
بتاريخ: 2025-12-30 15:19:00.
الآراء والمعلومات الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع “yalebnan.org”، والمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المصدر الأصلي.

ملاحظة: قد يتم استخدام الترجمة الآلية في بعض الأحيان لتوفير هذا المحتوى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى